[align=center]عَصبَ عِمامتَهُ على رأسِهِ ، وتقلّدَ سَيفَهُ ، وأخذَ عَصاهُ يتوكّأ عليْها ، وانفَلتَ يكَابِدُ لفحَ الهاجِرةِ وحرّ الظهِيرَةِ ، كُلّما بَدَت لهُ شَجرةٌ سَارَع إليها يستَظِلّ ، وكلّما بَدا على رَبعٍ سابَقَ إليهِم يَنشُدُ : يَا قَوم ، مَنْ رأى مِنكُمْ جَمَلاً أحمَرَ ؟ مِن صفتِهِ كَذا وكَذا ؟
وَطَفِق يَصعَدُ حَزماً هُنا ، ويَرتقي تَلعَةً هُنَاكـَ ، لَم يَثنِهِ قَيظُ مَكّةَ عَن نِشدانِ ضَالّتِهِ ، فَقد كانتْ رأسَ مالِهِ ، وَمبلَغ أملِهِ ، وَلأن يفقِدَ حَياتَهُ ويُسلبَ مُهجَتَهُ أهونَ عَليهِ مِن أن يفقِدَ جَمَلَهُ الأحمرَ !
طالَ بِهِ البَحثُ ، وأضنَاهُ الاستخبَارُ حَتّى عَيّ ، وأدركَهُ اليأسُ أو كادَ ، وَما مِنْ مُخبِرٍ عَن جَمَلِهِ ولا مُبلّغٍ ، وكأنّما الأرضُ قدِ انشَقّت عَنهُ وابتلَعتهُ ، أو لكأنّمَا تَخطّفتهُ الطّيرُ ثُمّ هَوت بِهِ في وادٍ سَحيقٍ ، وانتَهَى بِهِ السَيرُ إلى شَجَرةٍ يختَفي تحتَ ِظلّها مِن وَهجِ الشَمسِ الحَارِقِ ، ويَستَريحُ قَليلاً مِن النَّصبِ والتّعَبِ ، قالَ يُحَدّثُ نَفسِهِ :
تَبّاً لهَذا الجَمَلِ وَسُحقاً ، أينَ اختَفى ؟
ما تَركتُ رَبعاً إلاّ سألتُهم عَنهُ ، ولا وَادِياً إلا تَقصّيتُهُ فيهِ ، ولا جَبلاً إلا تسنّمتُهُ لأجلِهِ !!
وأيمُ الله لَو سَرقَهُ سارِقٌ لبُلّغتُ خَبرَهُ ، وَلو ماتَ لوجَدتُ أثرَهُ !
ثُمّ التَفتَ بِنَظرَةِ يائِسٍ مَحزونٍ إلى وادٍ قَريبٍ مِنهُ وقالَ : لَم يبقَ إلاّ ثَنيّة المُرار ، إن بَقيَ لي في جَمَلي بَقيّةٌ وَجدتُهُ هُناكـ َ .
أخذَ عَصاهُ وانطلَقَ نَحوَ ثَنيّةِ المُرارِ ، وَلمْ يَكدْ يستبطِنُ الوادِي حتى رأى جَمَلهُ الأحمرَ يَرعَى لَيسَ بِهِ بأسٌ , فاشتدّ نَحوهُ عَدواً حَتى أمسكـَ بِهِ ، ثمّ أخذَ بخطَامِهِ يَجُرّهُ ، وَبينَا هُوَ كَذلكَ طَلعَت عَليهِ خَيلٌ تَتسابقُ عَدواً كأنّمَا هِيَ الرّيحُ عَاصِفةً ، عَلى ظُهُورِها فُرسانٌ أشرَقت وُجوهُهم نُوراً ، وأضَاءتْ طُمأنِينَةً وبِشراً ، فاختبأ مِنهُمْ خَلفَ جمَلِهِ ، واستَترَ عَن أعيُنِهمْ وَراءهُ ، فَنَاداهُ أحدُهُم :
تَعَالَ يَستَغفِر لكـَ رَسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ .
فَقالَ : واللهِ لأنْ أجِدَ ضالّتي أحبّ أليّ منْ أن يَستَغفِرَ ليْ صَاحِبُكُمْ !!
قالَ جَابِرُ بن عبد اللَّهِ قال رسول اللَّهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ : "من يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ ثَنِيَّةَ الْمُرَارِ فإنه يُحَطُّ عنه ما حُطَّ عن بَنِي إِسْرَائِيلَ " قال فَكَانَ أَوَّلَ من صَعِدَهَا خَيْلُنَا خَيْلُ بَنِي الْخَزْرَجِ ثُمَّ تَتَامَّ الناسُ فقالَ رسولُ اللَّهِ صلّى اللهُ عليْهِ وسلّمَ " وَكُلُّكُمْ مَغْفُورٌ له إلا صاحبَ الجَملِ الأحمَرِ "
صَحيحٌ رَوَاهُ مُسلِمٌ
وَبعدُ أيّها الكِرَامُ
أرَأيتُم إلى هذَا المَحرومِ كَيف حَرمَ نَفسَهُ ، وَصدَفَ عَن أمرِ اللهِ ورسُولِهِ ؟
أرأيتُمْ كيفَ افتُتِنَ بِمالِهِ عَن الاستجَابَةِ لداعي الإيمَانِ ، وصَرفَهُ هَواهُ عن وَعدٍ صادِقٍ مَضمُونٍ بالمَغفِرَةِ والرّحمَةِ ؟
أرأيتُم كَيفَ عَرَضتْ لهُ نَفحَةٌ مِن نَفحاتِ اللهِ عَزّ وَجَلّ ، فأضَاعَها وأعرضَ عَنهَا ؟
َكمْ مِنَ النّاس اليَومَ شَابَهوا صَاحِبَ الجَمَلِ ، فَضيّعُوا فُرَصَ النّجَاةِ ، وَفوّتوا نَفحاتِ الرّضوَانِ ، وأوغَلوا في هَذِهِ الدّنيَا حَتّى شَغلَتهُم عَن داعي اللهِ ورسُولِهِ ، بَل تجَاوزوا إلى التّفريط في أمرِ اللهِ ، وأسرَفوا عَلى أنفُسِهِم بِمَعصيَتِهِ ، والدّاعي يصرُخُ بِهم : " يَا أيّها الذينَ آمنوا استَجيبُوا للهِ وللرّسولِ إذا دعَاكُمْ لِمَا يُحييكُمْ " .
أيّها القارِئُ الكَريمُ :
هَا أنتَ عَلى مَشارِفِ ثَنيّةٍ مِن ثَنَايَا الرّحمَةِ ، ومُرتقىً طاهرٍ مِن مراقي المَغفِرَةِ ، وبَابٍ كَريمٍ مِن أبوَابِ العِتقِ مِنَ النّار ، فَهلْ تُحِبّ أن تُضَيّعَهُ كَمَا ضَيّعَ صَاحِبُ الجَمَلِ الأحمرِ ؟؟
قالَ صَلّى الله عَليهِ وَسَلّمَ :
" مَن صَامَ رَمضانَ إيمَاناً واحتِساباً غُفِرَ له ما تَقدّمَ مِن ذَنبِهِ "
وَقالَ صَلّى الله عَليهِ وَسَلّمَ :
" مَن قَامَ رَمضانَ رَمضانَ إيماناً واحتِساباً غُفِرَ لهُ ما تَقدّمَ مِن ذَنبِهِ "
اللهُمّ بَلّغنا رَمضانَ ، ووفقنَا فيهِ لطاعَتِكـَ ، وجَنّبنَا مَعصيَتكَ .[/align]