[align=right]تمهيد
هذه رسالات في الأخلاق لعلاج النفس ، وطيب العيش ، حتى تتسنى لها سعادة الحياة .لم ننشئها من لدنا إنشاءً ، ولم نبتدعها من عندنا ابتداعا وأنما هي ضوء اقتبسناه من المطالعات في كتب الأوائل والأواخر من شرقيين وغربيين وثمرة مجنية من مشاهدات الزمن وتجارب الأيام مما جعلناه لنفسنا درسا في تقويم النفس عسى أن نكون قد انتفعنا بهاشيئا قليلا والقليل في شفاء النفس كثير . ولافضل لنا فيها الا مثل فضل النحل ، تجنى من أثمار الأشجار وأكمام الأزهار ماتحوله في بطنها عسلا وشهدا فيه شفاء للصدور ونحن نعرضها اليوم على أعين الناس ، عسى ان ينتفعوا ان شاء الله منها بالشئ الكثير ن وليس تقديمنا إياها لهم في منزلة أوامر الطبيب للمريض ، بل في منزلة دواء مجرب من مريض الى مريض ومن عاجز مستفيد الى مستفيد.
ساعات الحياة :-
إن العمر طويل بالتدبير قصير بالتبذير ، كما أشرنا اليه في اخر كلامنا عن الغضب وكثيرا مايشتغل الأنسان في حياته بسفاسف الأمور التي تجره الى الغضب ، فيجره الغضب الى مضايق الأكدار ومنغصات الحياة فيضيع من عمره أكثره في الشقاء والبلاء ، الم يعلم أن زخارف الدنيا وبدائعها وذخائرها ورغائبها لاتساوي في ميزان عقله دقيقة واحدة من عمره. بل إن جميع مايحتوى عليه هذا العالم من شموسه وكواكبه أقل قيمة من عنده تلك الدقيقة التي يصرف الآلف منها في الأسف والأسى والحزن والندم إذا لم يبلغ ما أراد من سافل مشتهياته ، هيهات أن يعرف ذلك الا إذا حم القضاء ودنا الأجل فيتمنى ان لو أنفق مافي الأرض جميعا لزيادة تلك الدقيقة في عمره ، هلا تذكر ذلك قبل ضياع الفرصة ؟إن الفرصة إذا ولت لايجدى التمنى ولايجدى ان ينسب البخل الى الطبيعة لأنها لم تهب له عمراً طويلا يليق بشرف أعماله بين سائر الحيوان ، أن شكونا من الطبيعة بهذه الصورة داء قديم استوى فيه العاقل منا والجاهل ، وهذا رئيس الطب أبقراط يقول : " الحياة قصيرة والفن طويل" ورئيس الحكماء أرسطو يشكو من الطبيعة لتفضيلها بعض الحيوانات على الأنسان بطول العمر كالحوت والفيل والغراب والببغاء فأنها تعيش قرونا والأنسان هو سيدها ومولاها وأعظم قدرا منها وأكرم مقاما وأعلى سعيا ولايكاد يبلغ القرن من العمر إلا نادراً.
والحقيقة أن حظنا من الزمن في الحياة ليس بقليل وانما إسرافنا فيه جعله موصوفا عندنا بالقله والحياة في الواقع طويلة تسع الأعمال العظيمة لو استعمل الإنسان أوقاته فيما ينبغي على ماينبغي أما إذا أضاعها في الملاذّ والشهوات والتكاسل عن العمل أوفي النزاع والخصام والصراع والضّراب دون النافع من الأمور فستأتيه الساعة الأخيرة على عجلٍ ، فإذا الحياة التي لم يحسن تقديرها قد ولت على عجل.
وحياتنا واسعة لمن يحسن التصرف فيها. وهي كالثروة في يد الحازم المقتصد يُثّمرهُا ويُنميها ، وليست كالثروة في يد الوارث السفيه يُذرّيها ويُسفهيا.
من ذا الذي يبرأ من وصمة السفه والتبذير في أيام عمره ؟ فهذا يقضيها في جمع المال وأدخاره ، فينظم عقود الآلاف في خزائنه ، وينثر منه ماينتفع به من ايام حياته وهذا يصرف أوقاته في التلهي بالملاذ والشهوان وهو في غفلة مسترسلة ، فتحل ببدنه الأمراض والأسقام وهي رسل الموت ، وهذا يطمع في اشياء كثيرة ليس الى الوصول اليها من سبيل فتذهب حياته ضياعا في الكدر والشقاء وهذا سيتظل بظلال الكسل والراحة فيذهب عمره سدى وهذا يخاطر بنفسه ملقيا بها في المهالك لربح يربحه وهو غني عنه ، فيموت ذاهلا بين المخاوف والمتاعب وهذا مشغوف بالفؤاد بحب المعارك والوقائع ، فلاينتهي عمره الا بالوقوع في التهلكة او ايقاع غيره فيها . وأكثر الناس يحسدون غيرهم على أرزاقهم ويقضون حياتهم في الشكوى من القضاء والقدر وأخرون ليس لهم مفتصد معروف ولامسلك مألوف ولاغرض معين ، ولاسبيل بيّن ، فهم يسيرون مع كل ريح ويندفعون مع كل تيار وينتقلون من عمل الى عمل قبل اتمامه وجني ثماره وغيرهم حيارى بأنفسهم ويقضون الحياة بين التردد والتذبذب وفتور الهمم وانحلال العزائم .
وقصارى القول اننا لانحيا الا جزءا يسيراً من أعمارنا ومابقى منها لايسمى حياةً ، وانما هو وقت يمضى وأيام تمر . وقد أحاطت بنا الأهواء والرذائل من كل جانب فلا تترك لنا وقتا نتمكن فيه من اتجاه انظارنا نحو الحقائق والأنتفاع بها وان كان لنافترة بين عواصف تلك الأهواء والشهوات فأنما نقضيها فيما تخلفه لنا من الجمود في النفس والوهن في الجسم كمايقضى راكب السفينة وقته بعد اضطراب البحر من الأعاصير .يتبع ..
كان ذلك مقطع من كتاب "علاج النفس" للأديب محمد أبن إبراهيم المويلحي "المويلحي الصغير" [/align]