عرض مشاركة واحدة
قديم 09-29-2009, 02:06 AM رقم المشاركة : 8 (permalink)
وكيل المويلح
ـــــــــــ
 
الصورة الرمزية وكيل المويلح






وكيل المويلح غير متواجد حاليآ بالمنتدى

افتراضي

محمد المويلحي .. يمتاز أدبه بصفاء الديباجة ونصاعة اللفظ وتلاحم النسج
أحمد فؤاد أمين *
تعتبر أسرة المويلحي من اعرق البيوت الادبية ونبغ فيها إبراهيم المويلحي ومحمد المويلحي الذي نتحدث عنه في هذا الموضوع.
والمعروف انه ظهرت لإبراهيم ميول أدبية منذ نعومة اظفاره فلما بلغ طور الشباب كان كاتباً كبيراً واصدر (مصباح الشرق) التي كانت من كبريات الصحف في بداية القرن العشرين وحرر فيها ابنه (محمد المويلحي) الذي بزغ نجمه ولمع اسمه على صفحاتها ونشر فيها كتابه المشهور "حديث عيسى بن هشام" منجماً على فترات.
ويعتبر محمد المويلحي كأبيه دعامة قوية من دعامات الادب في العصر الحديث، ويمتاز ادبه بصفاء الديباجة ونصاعة اللفظ، وتلاحم النسج الا انه يجنح في اسلوبه الى السجع على طريقة القدماء، ويحرص على الموسيقى اللفظية حرصاً شديداً وتنساب الصور والتشبهات في اسلوبه معبرة مثل قوله في وصف الصباح: "جلسنا نتجاذب اطراف الحديث من قديم في الزمان وحديث: الى ان صارت الليلة في اخريات الشباب، واستهانت بالازرار والنقاب، ثم دب المشيب في فودها، وبان اثر الوضح في جلدها، فعبثت بالعقود والقلائد من الجواهر والفرائد، ونزعت من صدرها كل منضود ومنظوم، ومن در الكواكب ولآلئ النجوم والقت بالفرقدين من اذنيها وخلفت الثريا من يديها، ثم انها مزقت جلبابها، وهتكت حجابها وبرزت للناظرين عجوزاً شمطاء ترتعد متوكئة عصا الجوزاء، وتردد آخر انفاس البكاء، فسترها الفجر بملاءته الزرقاء، ودرجها الصبح في ارديته البيضاء، ثم قبرها في جوف الفضاء وقامت عليها بنات الهديل نائحة بالتشييع والترتيل، ثم انقلب المأتم في الحال عرس اجتلاء، وتبدل النحيب بالغناء لإشراق عروس النهار واسفار مليكة البدور والاقمار".
فالمويلحي في هذه العبارة يشبه الليل بعجوز اشتعل رأسها شيباً فخلعت حليها وجواهرها، وهي هذه النجوم المتألقة المتلألئة على صفحة السماء، ومزقت ثبابها السوداء وهي هذه الظلمة التي تلفها لفاً حتى طواها الصبح بنوره المشرق وضوئه الغامر، والصورة تمثيلية جميلة ساحرة لو نظرنا الهيا من زاوية الجمال واسلوبها عذب رقيق لو قسمناه الى الاساليب الأخرى الموجودة في هذه الفترة من الزمان.
وقد عني المويلحي عناية خاصة بتربية النفس وتثقيفها، وكتب مجموعة من المقالات في تهذيب النفس ورياضتها، وحثها على استكمال حاجتها من الاخلاق الفاضلة والتربية القويمة ونشرت بعد ذلك في كتابه الذي اطلق عليه (علاج النفس).
ومن الموضوعات التي تناولها المويلحي في علاج النفس (الغضب) فهو يعتقد انه كم فتح ابواباً للسجن ونصب اعواداً للصلب، وفتل حبالاً للخنق، وبسط النطع، اوسل السيف، واضرم ناراً للحرب، وقد يقهر العقل آفات النفس ورذائلها، الا الغضب فإنه يستر العقل ولا يتغلب على ظهوره شيء بل تراه يشق الجسم ويبرز شاكي السلاح، فيقطع اواصر القرى ويفصم عرى الامامة والنبوة، فالغضب كالحرب اولها شرارة، ثم يكون منها ما يهول سماعه، او يغول منظره، ولهذا يمكن العاقل بادىء الامر ان يطفئ تلك الشرارة ولكن يتعذر عليه ان يطفئ نار الغضب اذا هي شبت واستقرت.

نصائح علاجية
ويصف المويلحي بعد ذلك مظاهر الغضب في بعض النفوس ويروي ان احد ملوك اليونان كان يغضب على البحر اذا اهتاج واضطرب وتأخرت سفنه عن النفوذ فيه، فيقسم ليطرحن الجبال فيه حتى تصير أرضاً ويقف على الشاطىء يهدد الامواج ويزجرها، وهذا اللون من الغضب ينشأ عن الترف والنغمة، ولذلك فإن المويلحي يدعو الى تربية الجسم والنفس بالرياضة، والتخشن كما ينصح الغضبان ان يقف وقفة في غضبه فإذا وقفها وكان ممن يفتكر ويتدبر، خف غضبه ثم زال ولا تعتقد أنك تستطيع ان تنزعه من يد الغضب دفعة واحدة فذلك ما لا سبيل اليه وانما يزول الغضب شيئاً فشيئاً حتى يذهب أثره.
وتأثر المويلحي في ادبه ببعض الاعلام الذين اهدى اليهم كتابه "حديث عيسى بن هشام" وهم الاديب الوالد ابراهيم المويلحي وفيلسوف الإسلام الحكيم جمال الدين الافغاني والامام العالم محمد عبده، واللغوي الشنقيطي والشاعر البارودي، وارسل اليه السيد جمال الدين الافغاني رسالة جاء فيها: "ان تقلبك في شؤون الكمال يشرح الصدور الحرجة من حسرتها، وخوضك في فنون الاداب يريح قلوباً علقت بك آمالها، وليس بعد الارهاص الخارق الا الاعجاز، ولك يومئذ التحدي. ولقد تمثلت اللطيفة الموسوية في مصر كرة أخرى وهذا توفيق من الله تعالى فاشدد أزرها، وابرم بما أوتيت من الكياسة والحذق امرها حتى تكون كلمة الحق هي العليا، ولا تكن كالذين غرتهم انفسهم بباطل اهوائها، وساقتهم الظنون الى مهوى شقائها، وحسبوا انهم يحسنون صنعاً، ويصلحون امراً ولكن عوناً للحق ولو على نفسك، ولا تقف في سيرك الى الفضائل.. لا نهاية للفضيلة ولا حد للكمال، ولا موقف للعرفان، وانت بغريزتك السامية أولى بها من غيرك والسلام".
واحتفظ المويلحي بهذه الرسالة بخط يد الأستاذ جمال الدين الافغاني ونشرها في صدر كتابه "حديث عيسى بن هشام" واهداها الى جماعة اهل الفضل والادب لما تضمنته من طلب العلم وادب النفس ولحسن اسلوبها في كتب المودات.
ويعتبر كتاب "حديث عيسى بن هشام" من اطرف الكتب في الادب العربي اذ تناول المؤلف فيه نقد المجتمع والعادات والتقاليد، ورسم لنا فيه صورة واضحة عن الاحوال الاجتماعية في البلاد، وعن المحامي الاهلي، والدفتر خانة الشرعية، وارباب الوظائف، والاعيان، والشرطة والتجار، والعمد في الريف، وما الى ذلك من موضوعات وجاء في اوله:
مواعظ وعبر
"بينما انا في هذه المواعظ والعبر وتلك الخواطر والكفر اتأمل في عجائب الحدثان واعجب من تقلب الازمان مستغرقاً في بدائع المقدور مستهدياً للبحث في اسرار البعث، والنشور اذ التفت التفاتة الخاطف المذعور، فرأيت قبراً انشق من تلك القبور، وخرج منه رجل طويل القامة، عظيم الهامة، عليه بهاء المهابة والجلالة، ورداء الشرف والنبالة، فصعقت من هول الوهل والوجل صعقة موسى يوم دك الجبل...".
ثم دار الحوار بين الطرفين كما يلي:
- ما اسمك أيها الرجل وما عملك؟ وما الذي جاء بك؟
- اسمي عيسى بن هشام وعملي صناعة الاقلام وجئت هنا لاعتبر بزيارة المقابر فهي عندي اوعظ من خطب المنابر.
- واين رواتك يامعلم عيسى ودفترك؟
- انا لست من كتاب الحساب والديوان ولكني من كتاب الإنشاء والبيان.
- لا بأس بك فاذهب ايها الكاتب المنشىء فاطلب ثيابي وليأتوني بفرسي (دهمان).
- وأين ياسيدي بيتكم فإني لا أعرفه؟
- (مشمئزاً) قل لي بالله من أي الاقطار أنت، فإنه يظهر لي انك لست من اهل مصر، اذ ليس من القطر كله من يجهل بيت احمد باشا ناظر الجهادية المصرية.
- اعلم ياسيدي انني رجل من صميم اهل مصر ولم اجهل بيتك الا لأن البيوت في مصر اصبحت لا تعرف بأسماء اصحابها بل بأسماء شوارعها وازقتها فإذا تفضلت واوضحت اسم شارع بيتكم وزقاقه ورقمه انطلقت اليه واتيتك بما تطلبه.
- ما اراك ايها الكاتب الا ان بعقلك دخلاً فمتى كان للبيوت ارقام تعرف بها وهل هي (افادات احكام) او (عساكر نظام) والاولى ان تناولني رداءك استتر به حتى اصل الى بيتي.
وبهذا الاسلوب اخذ المويلحي ينتقل من موضوع الى موضوع ومن ظاهرة الى ظاهرة ومن غرض الى غرض، قائداً للمجتمع، هادفاً للاصلاح. الا انه عندما وصل في حديثه الى الاهرام وقف موقف الجلال والاعظام فمضى يصفها بقوله:
"وقفنا هناك الاجلال والاعظام، قبالة ذلك العلم الذي يطاول الروابي والاعلام، والهضبة التي تعول الهضاب والآكام، والبنية التي تشرف على رضوى وشمام، وتبلى ببقائها جدة الليالي والايام، وتطوي تحت ظلالها اقواما بعد اقوام، ويفني بدوامها اعمار السنين والاعوام. خلقت ثياب الدهر وهي في ثوبها القشيب، وشابت القرون واخطأ قرنها وخط المشيب. ما برحت ثابتة تناطح مواقع النجوم، ونسخر بثواقب الشهب والرجوم. وتحدث حديث المشاهدة والعيان، ما تعاقب الفتيان، وتناوب الملوان، عن قدرة هذا الإنسان في بدائع الصنع والاتقان. وتنبئ عن قوة هذا الضعيف الضئيل، في اقامة مثل هذا الاثر الجليل. وكيف لهذا الغاني البائد، ان يصدر عنه مثل هذا الباقي الخالد. وجل صنع القدير الخالق، في تصوير هذا الحيوان الناطق.."

الصراع الخفي
وطاف محمد بكثير من بلاد أوروبا، اما موفداً من أبيه في بعض مساعيه، واما متفرجاً متنزهاً. وكذلك وصف مؤتمر باريس عام 1900في مقال بارع بديع كان ينشر منجما في مصباح الشرق. وطاف بسوريا وزار المدينة المنورة، ووصف القبر الشريف احسن وصف وابدعه ونشره في جريدة المؤيد. وكان يحب النكتة البارعة ويجتمع دائماً بمن حذقوا هذا الفن، ولا تكاد تسقط النكتة من فم غيره حتى يتولاه بالتخريج والمط والتلوين فما ينتهي احد في ذلك منتهاه.
وانتقل محمد المويلحي الى رحمة الله عام 1930، ولا تزال كتاباته تفتن الناس فتوناً شديداً، كما لا تزال قصة ذلك الصراع الذي دار بين والده ابراهيم وبين الشيخ علي يوسف، عالقة بأذهان الشيوخ من الناس، وخلاصتها ان والده ابراهيم انتقد الشيخ علي يوسف انتقاداً مراً لزواجه من سيدة لا تتكافأ مع أسرته ونشر عدة مقالات في هذا الصدد، وصادف ان التقى محمد نشأت بمحمد المويلحي في حانة "وركوس" وتعدى المويلحي على نشأت وسب اباه، فما كان من الشاب الموسر الا ان صفع المويلحي على خداه، وذاع صيت هذه اللطمة في الاوساط الادبية في مصر، واتخذها الشعراء والادباء مادة للسخرية والتندر على المويلحي وفي مقدمتهم الشاعر اسماعيل صبري. ونشرت المؤيد هذه الاشعار والمقالات واطلقت على العام الذي نشر فيه هذا الادب وهو عام 1902اسم "عام الكف". ومن قول اسماعيل صبري:
اذا فتح العداة عليك حربا
وخفت بوادر المتحزبينا
فقل ارفع عقيرة من ينادي
فلا يجد المؤازر والمعينا
اعرني يا ابن إبراهيم صدغا
اخوض به غمارا الصافعينا
فإن هو قد اعارك ما ترجي
رأيتهمو امامك هاربينا
كما هرب الفتى الصفاع يوماً
أمام الكاتب بن الكاتبينا
وقال كذلك بعنوان النصيحة:
ياابن الألى رسخت احلامهم ورست
اذا الاكف مجانين مهاويس
لا تدخل الحان والصفاع تأثرة
حتى تقام حواليك المتاريس
وقل لصدغك يستقبل وفودهمز
بالباب انهمو قوم مناحيس
وقال كذلك:
قفاك محمد نعم السلاح
اذا التف بالعسكر العسكر
وصدغك ان نقر الناقرون
عليه يرن ولا يكسر
ومن هنا شب الخلاف بين أسرة المويلحي وأسرة الشيخ علي يوسف الذي لم يدخر وسعاً في التحرش بالمويلحي على صفحات جريدته "المؤيد" فكان ينشر المقالات تلو المقالات لمهاجمة "المويلحيين" الصغير والكبير. وان هذه الحادثة اشبعت الصحف بمقالات نزالية جريئة كانت حديث الناس في تلك الآونة من الزمان. ولا تزال مادة خصبة لمؤرخي تاريخ المقالات النزالية للباحثين الآن.

*وكالة الأهرام للصحافة
(ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة)

المصدر | جريدة الرياض الجمعة 05 صفر 1425 هـ.

 





  رد مع اقتباس
 

SEO by vBSEO 3.3.0