عرض مشاركة واحدة
قديم 10-15-2014, 12:52 AM رقم المشاركة : 16 (permalink)
القلعة
المدير العام
 
الصورة الرمزية القلعة





القلعة غير متواجد حاليآ بالمنتدى

افتراضي

المويلحي لسان الأدب الذاتي ولغة التحرر التاريخي
المصدر: الديمقراطية موسسة الاهرام 2014
بقلم: د. ميثم الجنابي





عندما يتحول الأدب والإبداع الأدبي إلي شيء أوسع من البلاغة والاهتمام المفرط بالكلمة والعبارة حينذاك يأخذ البيان بالتحرر من البيان. فهي المقدمة الضرورية الملازمة لبداية امتلاك الأدب لسانه الذاتي. ولا يعني ذلك سوي تحول البيان البلاغي إلي بيان اجتماعي سياسي.
وهو تحول يعكس صيرورة الكلام في لغة تدرك قيمة المعني بالنسبة للفعل الاجتماعي. وذلك لأنها صيرورة تحول اللغة من وعاء للمفردات والعبارات إلي أسلوب للفكر والتفكير. مما يجعل منها كينونة متراكمة لوعي الذات الثقافي بأشكاله ومستوياته المتنوعة. والمسالة هنا ليست فقط في أن تحول الكلام إلي لغة، والبيان البلاغي إلي بيان فكري يؤدي بالضرورة إلي تحرير العبارة من قيودها الشكلية ويدمجها في كلية الفكرة فحسب، بل والي جعلها الفكرة محور وأسلوب الفعل الاجتماعي الهادف.
اتخذت هذه الصيرورة في مرحلة التحول العاصف للعالم العربي علي مشارف خروجه من دهليز العثمانية، صيغا ومستويات عديدة بالارتباط مع كيفية انكسار تقاليد المدارس الفكرية والسياسية والأدبية السابقة في ممارسات المدارس الجديدة وانهماكها الفعال في تحرير النفس والفكر. إذ بغض النظر عن اختلافاتها العديدة ساهمت هذه المدارس في رسم معالم الحرية وتحويلها إلي مرجعية في العلم والعمل. من هنا يمكن ملاحظة توافق المجري العام لاستمرار التقاليد الإصلاحية الإسلامية للأفغاني وعبده والكواكبي عند رشيد رضا، وتحولها "الليبرالي" (الحر) عند علي عبد الرازق. وكذلك استمرار تقاليد انعتاق الوجدان" و"تحصين الأركان" السابقة وتحولها "الليبرالي" (الحر) عند الريحاني وسلامة موسي لاحقا. وفيما بينهما تراوحت تقاليد المدرستين واستمرارها فيما يمكن دعوته بصيرورة لسان الأدب الذاتي، التي مثلها بصورة نموذجية المويلحي وجرجي زيدان. فهو التيار الذي تمثل بصورة واعية تقاليد الإصلاحية الإسلامية وتراث المدرسة اللغوية والأدبية بالشكل الذي جعل منها أسلوبا لتعميق النقد الذاتي وإرساء تقاليد الرؤية الأدبية التاريخية. وهي تقاليد ساهمت بصورة غير مباشرة في إرساء العناصر الأولية لوعي الذات التاريخي العربي المعاصر.
ففي (حديث عيسي بن هشام) نعثر علي هذا الجديد (الحديث) في الصورة والمعني. إذ يمثل بيانه الفكري الجديد نفيا لبيان اللغة التقليدية، مع أن السجع المليء في رواية المويلحي هو اقرب إلي سجع الروح الاجتماعي الجديد في تعامله مع الإشكاليات الاجتماعية الكبري لعصره. إننا نعثر فيه علي أصوات اليقظة الاجتماعية في هجائها للواقع. بمعني أن محاصرة السجع للفكرة لم يعرقل نطقها الوجداني. وهي الفكرة التي دفعها المويلحي نفسه إلي الأمام عندما أكد علي انه "ليس من كتّاب الحساب والديوان بل من كتّاب الإنشاء والبيان". وليست هذه المعارضة المعتزّة بتحزبها الصريح إلي جانب معسكر الإنشاء والبيان بالضد من معسكر الحساب والديوان، سوي النتاج الملازم لإدراك أهمية وقيمة الرؤية النقدية تجاه الواقع، باعتبارها تجليا أدبيا لليقظة الاجتماعية العامة. وهي يقظة تمثلت حقائق الإنجازات الفكرية والروحية التي بلورها الفكر العربي في مدارسه السابقة وميادينه علي امتداد أكثر من قرن من الزمن. لهذا نري المويلحي يشير في مقدمة كتابه إلي انه يهديه إلي "أديب يجد فيه طرفا من الأدب، وحكيم يري فيه لمحة من الحكمة، وعالم يبصر فيه شذرة من العلم، ولغوي يصادف فيه أثرا من الفصاحة، وشاعر يشعر فيه بمثل طيف الخيال من لطف الخيال"
لقد أراد المويلحي أن يجمع في "حديثه" خليطا من الأدب والحكمة والعلم والفصاحة والخيال يقدمه للأدباء والحكماء والعلماء واللغويين والشعراء، أي لكل الطيف الإبداعي الذي أخذ يستعيد مقومات وجوده الثقافي بعد غياب تاريخي طويل تحت غبار العثمانية. لقد أراد المويلحي أن يجدوا ويروا ويبصروا ويصادفوا ويشعروا فيما يريد قوله طرفة ولمحة وشذرة واثر وطيف من الأدب والحكمة والعلم والفصاحة والخيال، باعتبارها المكونات الضرورية لليقظة الاجتماعية. وهي مكونات شكلت في الواقع حافز إبداعه الفكري والأدبي بوصفه لسانا أدبيا ذاتيا للرؤية العربية المتراكمة في نقد الواقع التاريخي وإشكالاته الاجتماعية الكبري.
ووضع هذه الرؤية النقدية في منهجه الجديد، الذي زاوج بين الخيال والواقع باعتباره السبيكة العقلية الوجدانية أو الأدبية السياسية في نقد الواقع. حيث أكد علي إن "حديث هشام بن عيسي" وان كان في نفسه موضوعا علي نسق التخيل والتصوير فهو حقيقة في ثوب خيال لا انه خيال مسبوك في قالب حقيقة. وحاول أن يشرح فيه ما اسماه بأخلاق أهل العصر في مختلف طبقاتهم من النواقص. ذلك يعني أن الواقع هو مثار اهتمامه وليس الأحكام عنه، وانه يسعي لإظهار الحقيقة عبر الخيال لا بالعكس. لان ما يقوله هو حقيقة متبرجة في ثوب خيال لا خيال مسبوك في قالب حقيقة. وليس مصادفة أن يتخذ المويلحي من أبي العلاء المعري نموذجا لمحاكاته الروحية. فمن المعلوم أن المعري هو النموذج الخالد للروح العربي النقدي والنموذج المتسامي للروح النقدي الإنساني. وكما سبح المعري في خياله ليظهر الحقيقة كما هي، فان المويلحي سعي أيضا لمحاكاته التاريخية من خلال إبداع وجدان نقدي مواز لما أبدعه المعري قبل قرون. لكن إذا كان نقد المعري يجري ويسري في شرايين الخلافة الثقافية، فان نقد المويلحي يسير في اتجاه "تنقية" الدماء الملوثة للنهضة العربية الجديدة وتوجيهها صوب ضبط نبضات قلبها الآخذ في الحركة. وجعل من نقد التقليد الأجوف للغرب مقدمة نقده للواقع المصري (والعربي). وتتبع هذا التقليد في مختلف أشكاله بما في ذلك في اللغة. فإذا كان معني كلمة "السوابق" الجياد، فإنها تعني الآن "ديوان تقييد أوصاف المتهمين". وإذا كان معني كلمة "الشهادة" هو شهادة الجهاد، فإنها تعني الآن "ورقة يأخذها التلميذ". إضافة إلي هذا التغير يجري استعمال كومة من الكلمات والتطفل بها مثل الاوتيل واللوكانده والبوضة والكلوب والاكسبريس والمانيفيستو وغيرها. ولم يقف التقليد عند هذا الحد، بل تعداه إلي الملبس والمأكل والسلوك والتفكير أيضا. بحيث أدي ذلك إلي صنع سبائك من الشخصيات الاجتماعية العائمة بحد ذاتها وراء فضاء الغرب والشرق. لهذا نري المويلحي يتكلم عما اسماه بحركة الناس التي لا هي شرقية ولا هي غربية. بمعني دوران الجميع في حلقة مفرغة. وذلك لدوران الناس في تقليد لا يؤدي في نهاية المطاف إلا إلي تجميع الرذيلة وقولبتها في نمط وسلوك الدولة والمجتمع والأفراد. من هنا استنتاجه القائل، بان المصري في أخذه بالمدنية الغربية مثله مثل المنخل يحفظ الغث التافه ويفرط في الثمين النافع. لقد أدي ذلك إلي فساد وتحلل البنية الاجتماعية والسلوك الاجتماعي عند مختلف الفئات. ولم يكن ذلك نتاج أسباب خاصة بالثقافة الغربية كما هي، بل لأسباب مرتبطة بكيفية دخولها إلي الشرق. وعلي ذلك بني استنتاجه القائل بان سبب فساد الأحوال في الأمم الشرقية يعود إلي أن دخول المدنية الغربية إليها كان بغتة كما أن تقليد الشرقيين للغربيين في جميع أحوال معاشهم كالعميان لا يستنيرون ببحث ولا يأخذون بقياس ولا يتبصرون بحسن نظر ولا يلتفتون إلي ما هنالك من تنافر الطباع وتباين الأذواق واختلاف الأقاليم والعادات. وأدي ذلك بهم إلي أن يتركوا جميع ما كان لديهم من الأصول القويمة والعادات السليمة والآداب الظاهرة ونبذوا ما كان عليه أسلافهم من الحق، فانهدم الأساس.
إن انهدام الأسس المبنية علي "أصول الحق" المتراكمة في الثقافة العربية والإسلامية هو الذي استثار الرؤية النقدية السافرة والشديدة في مواقف المويلحي من الحياة الاجتماعية في مصر وتركيز حزمة الضوء النقدية علي كوامن الخمول الاجتماعي واستثارة اليقظة الاجتماعية عبر امتلاك لسان أدبها الذاتي. لهذا وجد المويلحي أسباب الاندفاع الأعمي وراء تقليد الغرب نتاج البطر والغفلة عن الماضي وضعف الهّمة وانعدام المعاناة والجهد وكراهة المشقة والتعب. إذ أصبح الرياء في الحياة الاجتماعية سلوكا عاديا وذلك بسبب انسلاخ الفئات الاجتماعية الجديدة عن تقاليدها القومية. فقد أدي تقليدها للغرب الأوربي إلي أن تتزي بزيه وتسلك سلوكا لا معني له في مصر. وأصبح الأخذ بالمظاهر الشغل الشاغل لهم. فحتي أفراحهم مجرد ديكور للأبهة الفارغة بسب خضوعها لتقاليد زائفة لا فرح حقيقي فيها.
وأصبح الفن مجرد أداة للابتزاز واللهو. فالغناء هو مجرد تفاهات وأداة للكسب وخال من الجمال والجلال. وتحول الجمهور إلي كتلة متخلفة وبليدة في أحاسيسها وأذواقها. وكل منهم مهتم بنفسه لا بالفن ما هو. وتحولت الجرائد إلي المصدر الأول والأخير لهؤلاء المتعلمين الجدد. وتحولت عندهم مطالعة الأخبار فيها إلي الشغل الشاغل، كما أصبحت الجرائد مصدر المعرفة والعلم. كما تحول "علم" هؤلاء إلي وسيلة للحصول علي وظيفة في الدولة. ولعل مفارقة الظاهرة تقوم في تلك النكتة الواقعية التي سجلها المويلحي علي لسان أحد أبطاله، الذين سمع بائعا أجش الصوت أنكر من صوت الحمير يصيح في شوارع القاهرة: "المؤيد! والمقطّم! والأهرام! ومصر! الأربعة بقرش! أي إذا كانت جرائد مصر الكبري حينذاك كلها بقرش واحد، فان ثمن مصر وأهراماتها وإبداعها الفكري الحديث لا يعادل من حيث نتيجته قرشا في "اكتساب" الحداثة المصرية. وهو حكم قاس إلا أن له ما يبرره من حيث دقته الثقافية وحدسه لرؤية الآفاق الفعلية للاغتراب والاستلاب الثقافي في مصر. وهو حكم يمكن تحسس وتلمس أبعاده في المفارقة غير المباشرة التي يقدمها المويلحي علي رسم شخصية محمد علي باشا وواقع مصر في بداية القرن العشرين. فقد كان محمد علي باشا "معجزة دهره وآية عصره في الدهاء وعلوّ الهمّة". حيث كان دقيقا في سياسة تربية الرجال في الإخلاص للوطن مع لطف في السياسة وعطف علي الأهالي. وأخيرا كان محمد علي محبا للعلم والعلماء وتعظيمهم وإكرامهم. بينما أصبحت السلطة الحالية مرتعا للفئات "الجديدة" الخالية من علو الهمّة والإخلاص للوطن والعطف علي الأهالي وحب العلم والعلماء.
إن هذا الاستلاب شبه الشامل في انحراف مصر عن مصادرها ومبدأ حركتها الجديدة التي أرساها محمد علي باشا، تكشف عن أن الدولة والمجتمع والأفراد يسيرون في حلقة مفرغة. وكل خطوة هي مراوحة في مكانها. فهي تشبه حركة الألعاب الدائرية لا تغير سرعتها من بقائها في فضائها التقليدي، ولا تنع في نهاية المطاف غير شهقة وفزعة وفرحة مرافقة لأوهام الحركة وسرعة الأفعال. أما في الواقع فإنها تدور علي كراسي معدة مسبقا لذلك. وهو أمر يؤدي بالضرورة إلي إعادة إنتاج ما كان. ولا يعني ذلك سوي إنتاج الفراغ واستلاب النفس الدائم. وبالتالي انعدام الحركة الذاتية، باعتبارها مصدر الأدب الذاتي ورؤية أبعاد الوجود التاريخي والثقافي للدولة والمجتمع والفرد.
وإذا كان هذا الاستلاب الثقافي هو سبب الخراب المميز للبنية الاجتماعية والسياسية للدولة والمجتمع، فان سر ذلك يكمن ليس في دخول الفرنسيين مصر، بل في "أننا أدخلنا أنفسنا في حكمهم فاخترنا قانونهم ليقوم عندنا مقام شرعنا" كما يقول المويلحي. مما أدي إلي انتزاع الفرد من منظومة القيم السائدة مما اجبره علي الدخول في نظام غريب عليه. وهو الأمر الذي جعل الفئات الرثة تتهافت علي مؤسسات السلطة كما لو أنها بقرة حلوب. مما جعل من مؤسسات الدولة أداة للعيش وليس لتنظيم الحياة. فالموظف يحصل فيها علي "رزق ثابت، شهريا نقدا ذهبا". وإذا كان الشرف فيما مضي يستمد رونقه من السطوة والمنعة ويقوم ركنه علي البأس والبطش، فان "الشرف اليوم في الاستكانة للأحكام والخضوع للقانون". ولم يقصد المويلحي بالاستكانة للأحكام والخضوع للقانون سوي العبودية للسلطة ومؤسساتها الجديدة. إذ ليس الجديد هنا سوي "ولي أمر جديد"، وهو مرتع الرشوة يستغلها "من اجل المحافظة علي النظام".
وتحولت أجهزة القمع المتزايدة من شرطة وأمن ومخابرات إلي مواقع تجمع "الدارسين" ذوي الأصول الفلاحية، مما أدي إلي إغراق الأجهزة القمعية بهم. فحيثما تنظر تري هؤلاء "العظماء الجدد" ذوي الأصول الفلاحية الذين أرسلوا إلي المدارس فنالوا الشهادة، فاستحق أحدهم تولي النيابة في الأمة وولاية الدماء والأعراض والأموال. واغرب ما في الأمر، كما يقول المويلحي، هو أن "يحكم فلاح وينوب عن الأمة حرّاث".
ولم يقصد المويلحي بذلك امتهان واحتقار الفلاحة والحراثة بقدر ما كان ينتقد ظاهرة سحق النظام وتشويهه من خلال قلب المفاهيم والقيم وقواعد السلوك والتقاليد الجيدة. أي كل ما أدي إلي تشوه بنية العلاقات الاجتماعية وطباع الفرد المنّظم في عالم لا نظام فيه. وينقل المويلحي لنا بصورة ساخرة إجابة وشكوي سائس يقول "لست ادري والله أسائس أنا أم حاضنة! ولست ادري والله أسائس أنا أم سّقا! والله ما ادري أبّواب أنا أم خصيّ! فما ادري والله أفرّاش أنا أم ابن صاحبها!؟
ورافق هذا التشوش في النظام تهشم قيم العمل والتربية. فقد وجه المويلحي نقدا لاذعا لنظام التربية والتعليم وغاياته العملية. فالتعليم لم يعد يخدم مهمات إرساء أسس متينة للتطور والتقدم، علي العكس انه أصبح وسيلة القلق الدائم للفرد لا وسيلة توحيد الهمّة الاجتماعية وفعلها الهادف. إذ وجد في سوء التربية والتعليم وانحطاطهما الآفة الكبري في انحطاط الأخلاق. ويعكس تتخلف التربية بنظره مجمل التخلف والانحطاط العام في الدولة والمجتمع مثل استيلاء الجبن والحذر علي القلوب وضعف العقول وفتور النفوس والكسل. بحيث أدي ذلك إلي أن تصبح البدعة سنّة والسنّة بدعة، والفضيلة نقيصة والنقيصة فضيلة.
أدي هذا الانهيار في القيم إلي صعود الطفيلية وسيادتها في مؤسسات الدولة وفي العلاقات الاجتماعية والسياسية والثقافية. وأصبح الحصول علي المال والثروة بكل الطرق والوسائل الامتياز المفضل لطبقة "الأعيان والنبلاء الجدد". وتحول الغش والخديعة إلي أسلوب الابتزاز واستلاب الحقوق وانتزاع الأقوات. بحيث أن مصافحة المحامي أصبحت تساوي عشرين جنيها! وليس مصادفة أن يتحول اليهود، كما يقول المويلحي، بين ليلة وضحاها في هذا الواقع إلي "أسياد جدد في مصر من خلال البورصة والمضاربات. ويورد المويلحي علي لسان أحدهم قوله "هذا صاحبنا الخواجة فلان اليهودي وفيكم من أدرك والدته تبيع الخبز في الحارةة أنا أردت أن أبين لكم أن هذا اليهودي دخل البورصة سمسارا لا يملك مالا فأصبح من كبار الأغنياء". بحيث أدي ذلك في نهاية المطاف إلي أن آل النظر والاستحقاق فيها لليهود واندثرت البيوت وذهبت أسماء أصحابها. ولم يقصد المويلحي بذلك سوي أن الاغتناء والإفلاس واستمرار التقاليد أو اندثارها تحول إلي جزء من مغامرة لا ترتبط بإنتاج ولا بعلم ولا بمعرفة ولا بعمل غير ذاك مغامرات البورصة والمضاربات. كما أصبحت مهمة الجرائد الإشارة لهذه الأخبار، التي أصبحت بدورها "معلف" "المثقفين الجدد" ونقاشاتهم، مثل أن تنشر إحدي الجرائد خبر موت نقيب الأشراف عن عمر يناهز ست وتسعين سنة "قضاها في عمل البر والإحسان، فكان نبأ موته أسف وحزن في قلوب بلده خصوصا والقطر المصري عموما". وأثار ذلك كالعادة نقاش "المثقفين الجدد"، بحيث علق أحدهم علي ذلك قائلا "لا حول ولا قوة إلا بالله. لابد أن تكون أسعار البورصة هبطت لهذا النبأ هبوطا فاحشا في القطر المصري خصوصا وفي الولايات المتحدة عموما".
أدي هذا الواقع الكسيح إلي صنع فئات اجتماعية كسيحة لا همّ لها إلا الإثراء السريع والقفز علي مراحل التاريخ والمحاكاة السطحية المباشرة للغرب. لهذا نري المويلحي يقسم المجتمع إلي ثلاث طبقات اجتماعية هي طبقة العامة، "وجبلوا علي التسليم لأحكام القضاء وتفويض الأمر لأقدار السماء"، وطبقة الخاصة، الذين يعتمدون أيضا "علي التسليم لأحكام القضاء والإيمان بأنه لن ينالهم إلا ما قدّر الله، ومع ذلك لا يرون ما يمنعهم عن الأخذ بأسباب التقية والحذر، ولا في العمل بمقتضي القوانين المندوب إليها في حفظ الأبدان". أما الطبقة الثالثة فهي طبقة "حديثة التربية" لا من الأولي ولا من الثانية "خلت صدورهم من آيات الله والحكمة"، اخذوا عن "بعض الفرنسيين عادة التهاون بالشرائع والازدراء بالإيمان، ولم يحيطوا بشيء من العلوم الموضوعة لتقويم وتطهير الطباع ومعرفة الحقائقة وأنهم اصغر خلق الله نفوسا، وأجبنهم قلوبا، وأكثرهم هوسا ووسواسا، وأشدهم قلقا".
لم تعن إشارة المويلحي لهذه "الطبقات" سوي الإشارة إلي الواقع الاجتماعي المتصير في ظل سقوط القيم القديمة وانحلال التقاليد الخاصة وضعف استبدالها بقيم وتقاليد تستند إلي المرجعيات الثقافية العربية والإسلامية. كما لم يقصد بهذه "الطبقة المثقفة الجديدة" سوي الفئة التي وصفها المويلحي نفسه بالفئة المصطنعة، التي لا همّ لأحدهم منها سوي البحث في كتب الفرنسيين وأدلتهم وشرائعهم وأسمائهم عن "دليل" لكل ما يريد قوله وفعله! بحيث تري القاضي "الجديد" والمحامي "الجديد" يطلب كتاب دللوز وجارو عوض عن ابن عابدين والهداية. وعندما لا يعثر فيها علي ما يريد يطلب كتب فوستين هيلي!. ولم يسع المويلحي من وراء ذلك إلي رفض أو تجاهل إبداع الغرب في ميدان الفقه، بقدر ما انه انتقد تجاهل وجهل القضاة والمحامين "الجدد" لتراثهم الفقهي الهائل وشريعة أسلافهم العظام. فالشريعة هي ليست وعاء رؤيتهم المتعالية والمقدسة، بل وميدان تجاربهم الاجتماعية والثقافية. وجهل أصولها هو تخريب لأركانها وفروعها. ومن ثم هي أداة تخريب الأدب الذاتي في التعامل مع النفس والآخرين علي السواء. فالقانون الإسلامي أو حصيلة الشريعة الإسلامية في مختلف علومها، كما يقول المويلحي، لم تنسخ ولم يرتفع حكمه، بل هو باق علي الدهر ما بقي في العالم إنصاف وفي الأمم عدل. إلا أن المشكلة تقوم في انه "كنز أهمله أهله، ودرة أغفلها تجارها، فلم يلتفتوا إلي وجوه تشيد وتمكينه، وتمسكوا بالفروع دون الأصول، وعكفوا علي الاشتغال بسفاسف الأمور وتعلقوا من الدين بالأغراض الحقيرة والأقوال الضعيفة، وتركوا الحقيقة إلي الخيال، وتعدوا الممكن إلي المحال، ولم ينتبهوا يوما إلي ما تجري به أحكام الزمن في دورته، ولم ينتهوا إلي أن لكل زمن حكما يوجب عليهم تطبيق أحكام الشرع علي ما تستقيم به المصلحة بين الناس".
أما الطبقة "الحديثة"، فانه لا حديث فيها وعندها سوي التقليد. ومن ثم فهي طبقة خالية من المعرفة وخاوية العقل ورخوة الضمير. أنها كتلة تحتوي علي أفراد صغار النفوس، جسدت وجودها الواقعي حصيلة الرذيلة التاريخية للمحاكاة الفجة للغرب الأوربي. لقد أخذت من الحضارة الغربية قشورها ورذائلها. فهي تتكون عادة من الشبان الذين تميزوا بالافتنان والأخذ بالمظاهر من بين أولئك الذين يذهبون إلي أوربا للنزهة والراحة، أو بين أرباب الوظائف الذي يفرون إلي هناك من قيود الخدمة، أو من بين الذين يقومون هناك لأسباب عقائدية وسياسية حيث يعملون كالأجير للأجنبي، حسب تقييم المويلحي.
لقد أراد المويلحي القول، بان هذه الفئات الاجتماعية التي تبلورت في ظل انكسار التقاليد والقيم، بفعل المحاكاة السطحية المباشرة للغرب الأوربي أدت إلي تشويه ذاتي شبه تام. ومن ثم فهي عاجزة عن تقديم إجابة سليمة للإشكاليات الواقعية الكبري التي تقف أمام مصر والعالم العربي آنذاك. فهي تنافي الرؤية الأوربية عن نفسها كما لو أنها حقيقة مطلقة. وصاغ ذلك علي لسان إحدي شخصيات روايته عندما قال "أننا لا نري في كتابات وأحاديث الغربيين عموما والفرنسيين خصوصا سوي تمجيدا لمدنيتهم ومباهاة الناس بنظام معيشتهم، وان هم الكبير منهم والصغير هو إخراج الناس من الظلمات إلي النور وتمدين الهمج والبرابرة وما شابه ذلك. وهي أحاديث وكلام ينبغي طرحها جانبا والنظر إلي الأمور في حقائقها والحكم عليها بحسب قيمتها في ذاتها لا حسب ما رسم الوهم وسوّله الخيال في النفوس".
وهي فكرة تمثلت من حيث دوافعها وغاياتها البعد الجوهري في التيار الذي مثله المويلحي والقائل، بان الإبداع الحقيقي يفترض معاناة ذاتية والسير في إشكالاتها. فهو الطريق الوحيد الذي يمكنه أن يبدع أدبا ذاتيا في القول والعمل. من هنا انتقاده اللاذع والعقلاني لدور السلطة التخريبي تجاه المصالح الوطنية الكبري وبالأخص تجاه تدمير الروح الوطني في الاقتصاد والاجتماع. فعوضا عن أن تكون منظما فاعلا للإنتاج والتبادل والرفاه الاجتماعي نراها تتحول إلي وسيلة لتفريغ المجتمع من قواه المنتجة، والي هراوة لقمع المجتمع نفسه. من هنا مواجهة المويلحي للفكرة الشائعة الانتشار آنذاك عن أن "العمل في الحكومة" موجه أساسا "لخدمة المواطن ونفع الأمة" بفكرة مضادة تقول بان من يريد خدمة "وطنه فليتخلص من قيود الحكومة ويخدمه وهو مطلق اليدين واسع التصرف"، وذلك لصعوبة التوفيق بين المحافظة علي البقاء في المنصب والاستقلال في الرأي الذي يقتضيه مصلحة الوطن، كما يقول المويلحي. ولا يعني ذلك في الواقع سوي دفع فكرة الحرية إلي نتيجتها المنطقية، التي تفترض جوهرية التحرر بالنسبة للمجتمع وأفراده ككل. فالخروج من أحضان السلطة يعني تحررها من نفسية الاستبداد والمملوكية، ورميها في أحضان المجتمع الحر. لان خدمة الوطن والدولة يفترضان تحرير الفرد والمجتمع علي السواء. لان الحكومة كانت آنذاك المالك "الحر" الوحيد، بينما تفترض الحرية إطلاق أيدي الأفراد والمجتمع، باعتباره الأسلوب الحقيقي لخدمة الوطن. وهي خدمة لا يمكن تحقيقها خارج الإبداع الحقيقي باعتباره حركة ذاتية تصنع أدبها الذاتي في التعامل مع النفس والآخرين. من هنا موقفه الجازم لصالح الانتماء للهوية العربية - الإسلامية لمصر مقابل الهوية المصرية - الفرعونية. فقد كانت فكرة المصرية - الفرعونية مبنية علي أساس مشاهد وذكريات مثل مشاهدة العزة والفخر عما في آثار المصريين القدماء وآثارهم الماضية، وأنها شهادة العالم اجمع علي ثمنها كما هو جلي في تهافت الغربيين علي اقتناء كل ما فيها. كما تكشف تماثيلها الباقية مثل تمثال "شيخ البلد" وهو قطعة واحدة من خشب الجميز عن دقة صنعه وإتقان العمل فيه وما شابه ذلك من أدلة. في حين كان رد أولئك الذين أكدوا علي الهوية العربية ذ الإسلامية لمصر من انهم لا يرون في هذه الآثار ما يفوق ما هو موجود في السوق من البضاعة الكاسدة. كما لا يجدون في هذه الأحجار والتماثيل أكثر من أنقاض بيوت عفا عليها الدهر. ثم أن أجدادنا ليس من هذه الرمم الفرعونية، بل من أولئك العرب أهل الدين والإسلام. وعوضا عن "شيخ البلد" يمكننا العثور يومي علي مائة شيخ من لحم ودم لا من خشب وحجر.
وعندما أورد المويلحي هذه المقارنة والمشاجرة الأدبية، فانه لم يقصد بذلك الانتقاص من تاريخ مصر القديم ولا التقليل منه، بقدر ما أراد التأكيد علي قيم الانتماء الواعي للمكونات الجوهرية في تاريخ مصر ووجودها المادي والمعنوي. انه أراد القول، بان آثار مصر القديمة هي آثار بائدة، لها قيمتها وفاعليتها المندثرة فيما صنعه وكوّنه التاريخ العربي - الإسلامي. فهو التاريخ الذي يحدد هوية مصر الحقيقية وطاقة وجودها المستقبلي. وهو استنتاج وضعه المويلحي علي لسان الصّديق، الذي رد علي مضمون الجدل الآنف الذكر بعبارة تقول "أي نفع وفائدة للأمة المصرية الإسلامية أن تنشر بين يديها رمم الفراعنة في الانتيكخانه (متحف العالم القديم) وتقبر أرواح العلماء والحكماء في الكتبخانه (المكتبة). وأي الأمرين أعظم نفعا وأكثر ربحا أن يعرض علي أعيننا تمثال ايبيس وصورة إيزيس وذراع رمسيس وفخذ امينوفيس، أو أن تتناول الأيدي كتاب للرازي ومقالة للفارابي وفصلا لابن رشد ورسالة للجاحظ وقصيدة لابن الرومي؟
لقد أراد المويلحي القول، بان الأبعاد الإنسانية والمعنوية العميقة في مصر تكمن فيما وضعته الحضارة الإسلامية علي لسان فلاسفتها ومتكلميها وأدبائها وشعرائها. فقد نطق هؤلاء بلسان أدبهم الذاتي. وهو السر الذي يمكنه أن يعيد لمصر عروبتها الإسلامية ويجدد وجودها، باعتباره الطريق الأمثل لتحررها الفعلي.
 





  رد مع اقتباس
 

SEO by vBSEO 3.3.0