عرض مشاركة واحدة
قديم 05-21-2011, 03:28 AM رقم المشاركة : 9 (permalink)
القلعة
المدير العام
 
الصورة الرمزية القلعة





القلعة غير متواجد حاليآ بالمنتدى

افتراضي

من رسائل المويلحي الرائد الأول للقصة المعاصرة

محمد رجب البيومي

تاريخ النشر: 28/06/2010
اقرأ للكاتب
(كبرياء الألم)


حين انتقل الكاتب الكبير الأستاذ محمد المويلحي إلى رحمة ربّه , رثاه أحمد شوقي بقصيدة قال فيها :
عجِب الناس من طباع المويلْحيّ وفي الأُسْد خلقه وطباعه
فيه كبر الليوث حتى على الجوع وفيها إباؤه وامتناعه
يا وحيد الكأس في كسر بيت * ضيق بالنَزيل رحب ذراعه
كل بيت تحلّه يستوي عندك في الزهد ضيقه واتساعهُ
ورثاه حافظ إبراهيم بقصيدة قال فيها :
كنت نعم الصبور إن حزب الأمر وسُدَّت مسارح الأسباب
مؤثر البؤس والشقاء على شكوى وإن عضك الزمان بناب
وترى وحشة انفرادك أنساً * بحديث النفوس والألباب
ونبذت الثراء تبذل فيه * من إباء في بذله شرّ عاب
ورثاه خليل مطران بقصيدة قال فيها :
كان بالنفس يكتفي عن عباد الله ما يستطيع أن يتفرّد
ليس فيه عُجْب وإن كان في ظاهره العُجْب , والفتي , ماتعود
بيته ضيق ولكنه من عزة النفس في طراف ممدَّد
رحم الله في الرفاق رفيقا * كل يوم مكانه يُتَفقَّد !
وهكذا اجتمع الثلاثة الكبار في تصوير هذه العزلة القاسية التي ظلت قرابة خمس عشر عاما ديناً لكاتب كان الأول بين كُتاب عصره في رأي الكثيرين , وغريب أي غريب أن تموج الدنيا بالأحداث فتشب الحرب العالمية الأولى حادّة ماحقة , وتقوم الثورة المصرية سنة 1918 هائجة مائجة , وتمتلئ الصحف والمجلات بآثار الأدباء والمتأدبين , ويظهر على مسرح السياسة كُتاب يفخرون بالتلمذة الدائبة على أدب المويلحي , والأستاذ صامت لا يُبن !
كان المويلحي الغلام والشاب مُمَتَّعا بفيض من النعيم , إذ نشأ نشأة الأثرياء المترفين , وعين في وظائف حكومية أضافت الطريف إلى التليد , ثم انعكس الحال فبيعت كثرة ما يملك أبوه من العقارات , وفقد وظيفته الكبيرة في إدارة الأوقاف فجأة , وتذاءب القائمون على استثمار البقية من ممتلكاته فلم يوفوه حقه , فاضطر إلى الانزواء في منزله قانعا بالكفاف , وكان في معارفه من كبار رجال الدولة من يستطيع إسعافه بمنصب يسعده لو عرض بالرجاء , ولكنه ترفع وتأبى , وأخذ يعالج حياته على المتاح النزر من مورده , وإذا كان مظهره الشخصي يتطلب الإنفاق خارج المنزل في مجالس السمر , فليكف عن هذه المجالس , ولتكن الحدة القاسية معتصَمه الضروري , ولا بد أن يكون ذا سيطرة خارقة على نفسه , حتى استكانت للتفرد , وقنعت بالاعتزال .
قد يقال ولكن هل تمنع العزلة المتفردة أدبيا كبيرا أن يسطر ما يجيش به صدره من الخواطر ؟ إن المويلحي قارئ مستوعب لم ينقطع عن الاطلاع في غير أوقات المرض , وهو كاتب اجتماعي سياسي وناقد أدبي , وقد طارت شهرته في هذه الأغراض قبل أن يكتهل , أفحين تشب الحرب وتصطلي مصر بنارها المحرقة إذ كانت جيوش الاحتلال حينئذ تهيم بها ناهبة غاصبة , ثم حين تندلع ثورة الأمة بقيادة سعد , فترتجّ الأرض رجًّا بما يسيل من دم الشهداء , ويمزق من أجساد الأبرياء , ويعتقل من شباب الأمة وشيوخها , أحين يحدث ذلك كله يحجم الكاتب الكبير عن قيادة قومه بالرأي كما كان يفعل في أيام كرومر وغورست ؟! هذا سؤال قد تتعذر الإجابة الشافية عنه ! وإخاله رأى في تطاحن الأحزاب , وتشاجر الزعماء ما دفع به إلى السأم ! بل إخاله رأى بين من اتخذوا الكتابة السياسية وسيلة للظهور الكاذب دون اقتناع بالوجهة الصحيحة نفرا ملئوا الصحف , وطارت لهم شهرة , وحسبوا أنفسهم على شيء , وهو بميزاته الخاصة يعلم أنهم هباء , فربأ بنفسه أن يجري معهم في شوط , وللحمية الأدبية عزة دونها حمية الجاهلية في القديم , ولكنها مع ذلك شيء ملموس أحس به من قال :
وتجنبَتِ الأسودُ ورودَ ماء * إذا كان الذئاب ولغن فيه !
هذا افتراض يساق , وليس دليلاً يبرهن .
(رسائل المويلحي)


كتاب (حديث عيسى بن هشام) وكتاب (علاج النفس) هما أثرا المويلحي المجموعان في حيز مستقل , وقد تحدثت عنها في غير هذا المكان , ثم سعدت بقراءة بعض رسائله التي اهتم بتدوينها بعض الدارسين , فرأيت أن تكون مجال الحديث عنه اليوم , والمويلحي منذ عرف رسالة القلم , وحمل أمانته قد اشرأب إلى مراسلة الرءوس من ذوي المكانة , وقد كان جمال الدين الأفغاني ألمع مفكر في عصره ، لا لأنه عرف من العلم ما لم يعرفه سواه , بل لأنه ترجم العلم إلى عمل حي متوثب , فقد قرأ على طلابه بمصر دروس الفلسفة ليشرئب بعقولهم إلى آفاق الحرية , وليؤكد كرامة الإنسان في حياته , ومن هنا تحول الطلاب إلى دعاة حرية , وجنود استقلال فهبت العواصف في كل مكان على الاستعمار , وزاد جمال الدين توهجا وبريقا , وكان صديقا لابراهيم المويلحي والد الكاتب الناشئ محمد المويلحي , فأراد الشاب الطامح أن يشد أواصره بزعيم الحرية في عصره فأطلعه على بعض ما يكتبه في الصحف , راجيا أن يظفر بتنويه يشجع , أو تصويب يسدد , ولم تُلْهِ السيد الأفغاني شواغله الجمة عن كتابة رسالة معبرة مزكية , كانت موضع الزهو من الأديب الناشئ والارتياح من والده وعمه وهما من نابهي العصر ! فحرص على إذاعتها , ونشرها في صدور الطبعة الأولى من (حديث عيسى بن هشام) بعد خمس عشرة سنة من كتابتها , قال في تقديمها :
"أهدي هذه الرسالة التي اختصني بها المرحوم الأستاذ جمال الدين الأفغاني بخطه الكريم منذ خمس عشرة سنة , إلى جماعة أهل الفصل والأدب , لما تضمنته من الحث على طلب العلم , وأدب النفس , ولحسن أسلوبها في كتب المودات , وهي لا تزال عندي إماما يهديني , ونورا استضيء به , فأردت أن أشاركهم في هذه الذخيرة التي يحق الضن بها , والحرص عليها , ونقلتها هنا بصورة خطه الشريف , تخليدا لأثر تلك اليد الكريمة . وإذا قدَّرنا أن الشرقيين يتنافسون تنافس الغربيين في اقتناء الرسائل , التي تكون قد صدرت عن بعض عظماء الرجال بخطوطهم , ويتسابقون إلى الحصول على بعض أدوات كتاباتهم , ويبذلون في سبيل ذلك من الأموال والمساعي ما لا يقدَّر فإني أكون قد أهديت لأهل الفضل هدية يعتدون بها , ويتقبلونها بالقبول الحسن إن شاء الله" .
(رسائل الأفغاني)


وإذا كان المويلحي قد حرص على تسجيل رسالة الأفغاني اقتداء بتنافس الأوربيين من تخليد رسائل ذوي الفضل , فإنني - مع هذا المنطق الصحيح - أحرص على إذاعة بعض الرسائل التي كتبها المويلحي نفسه , لأن ريادته الأدبية في عالم الفكر المعاصر تجعل آثاره مما يصان ويحفظ ! وقد كتب إلى جمال الدين الأفغاني , وهو في سن العشرين رسالتين تنبئان عن مجد أدبي أشرق فجره , وبدت تباشيره , وعلى القارئ أن يدرك حقيقة الأسلوب الأدبي للكتابة سنة 1884 من الميلاد , ليعرف كيف اجتاز الأديب الناشئ أوهاق المحسنات اللفظية , وخدع التعبيرات الشكلية ليعبر عن الحقائق تعبير البياني الأصيل , وقد كان الأفغاني محارَبا مضطهداً , لا يكاد يستقر في بلد حتى يزعَج إلى الارتحال مرغما , وقد عميت الأنباء عن موطنه حقبة من الزمن , ثم عرف المويلحي أنه مقيم في بطرسبرج بروسيا , فكتب إليه رسالة قال فيها – ببعض الاختصار : "شيئان في هذا العالم - أيها الفيلسوف - يقصر فكر العالم الراسخ في العلم دونهما , ويقف الباحث المدقق موقف الحيرة في أمرهما , ويرجع المستقصي لماهيتهما ساخطا على مبلغ علمه , متجهما في وجه عقله , مستصغرا ما استعظمه من قدر نفسه , أولهما كنه القوة التي تدفع كرة الأرض حين دورتها حول الشمس , وعلة النظام الذي ما خرجتْ عنه مدى الدهر في كل يوم وأمس , وثانيهما كنه همتك حين تدور بك في عين تلك الكرة , قاطعا مفاوزها , طاويا فيافيها وفدافدها , سالكا في مغالقها , مطقا مغاربها بمشارقها .
إذ جارتك شهب الليل قالت : * أعان الله أبعدنا مرادا
وحتى كأنك استصغرت الأرض دارا وعزمت أن تهدي النجوم منك فرارا ، فلذلك قادتك همتك السيارة في أنحاء الأرض تبتغي أقرب نقطة إليها مطلعا , وأسهل موضع تنتجه لك مصعدا , وأقسم لو أن النجوم ذوات عقل لعقدت لك من أشعتها سلما , ولانخفضت من منازلها لترتفع بك عقدا على نحرها منظما , فتنال بها من مسافة المجد أقصاها , ومن نهاية الرفعة أعلى رتبة وأسناها" .
مرة أخرى أذكّر أن الأسلوب أسلوب ناشئ في حدود العشرين , وأن الزمن زمن العبث بالمحسنات , وقد استطاع الأديب الواعد أن يعلو على أمراض الكتابة في عصره وعمره , فكتب هذا الذي اقتبست بعضه وتركت أكثره , وأول ما نلحظه فيما نلقاه أن الشاب الواعد كان ذا فكرة محددة يدور حولها وكان صاحب ريشة مصورة تظهر هذه الفكرة في سياق من التشبيه المحكم ذي الوجوه الشتى , والالتقاءات المتقاربة , كما كان صاحب تعبير ناصح يلقى بالمراد , سافرا لا يحجبه نقاب ! وإذا لم يكن هذا كله أضواء فجر , وتباشير شروق فماذا يكون ؟
(إلى سعد زغلول)


زعيم مصر الخالد سعد زغلول ذو مكانة أدبية تعدل مكانته السياسية فقد كان محررا في يفاعته بمجلات كثيرة , واشترك مع محمد المويلحي في الثورة العرابية ، ثم تفرقت بالصديقين السبل ، حيث اتجه سعد إلى القضاء ومسائل الفقه والقانون ، واتجه الموليحي إلى إيقاظ الوعي اجتماعيا وسياسيا بما ينشر من حديث (عيسى بن هشام) , ثم اختير سعد وزيرا للمعارف فكتب له المويلحي خطابا مهنئاً ومزكيا ومقترحا , مؤكدا رجاء الأمة في علو همته , وما تتوقعه من أفضاله , وقد تأثر سعد بخطاب صديقه حتى بكى خشية ألا يكون عند حسن الظن به , وتفرقت السبل بالصديقين مرة أخرى , فعكف المويلحي في عزلته صامتا عازفا . وأصبح سعد زعيم الأمة ورئيس الوفد والوزارة فهاجت مشاعر الصديق القديم , وكتب إلى الزعيم رسالة قال فيها :
"ذكرت اليوم خطابي الذي أرسلته إليه منذ أعوام كثيرة أهنئه فيه بتوليه نظارة المعارف , وكنت بسطت ما أعلمه من عظيم فضله , وجليل قدره , وما يتوسمه أهل النظر في علو همته لخدمة أمته , وأذكر أني قابلته بعد ذلك في مجلس من مجالسنا الماضية , فتفضل علي بأن أظهر لي حسن وقع الكتاب لديه , وأنه أثر في نفسه تأثيرا دفعه إلى البكاء , فصرفت ذلك حينذاك إلى أن عبارة الكتاب أثارت في نفسه ثائرة الهمة للعمل بما ينفع الناس , ثم أحس بما كان يعترضه في ذلك المركز من الحصر والتقييد , وضيق المجال عما يتسع له فضله من جلائل الأعمال وعظيم الأمور , وجاش صدره فأجهشت بالبكاء عينه , فكان مثله مثل الفارس مقيدا في الإسار , والجواد مشكولا في المضمار .
وأتعبُ خلقِ الله من زاد همه * وقصَّر عما تبتغي النفس وُجده
وقد دارت الأيام وسمحت الأقدار , فصدق فيه القول , وتحقق الظن ، واجتمعت الأمة على فضله وألقت بمقاليدها إليه ، ولم يبق أمامه من حائل دون العمل بفضائله ومواهبه في حلبة النفع العام , فإذا أنا تقدمت إليه اليوم بالتهنئة , فإنما أتقدم له بتهنئة كلها هناء وصفاء لا محل فيها للألم والبكاء ، فقد اجتمع لك العقل والفضل , والحل والعقد ، لولا إشفاق الناس عليك مما في دور العمل هذا من التعب والنصب واحتمال المشاق , إلا أن الرئيس الجليل ظهر للناس بأنه يستعذب الآلام في خدمة أمته , فيجتهد لتنعم ، ويشقى لتسعد ويسهر لتنام , فما يراه غيره عذابا أليما , يجده في حبها نعيما مقيما , وقد قال أحد طلاب المعالي في الزمن الخالي :
سبحان خالق نفسي كيف لذتها * فيما النفوس تراه غاية الألم
فليتقدم الرئيس بعون الله إلى احتمال المكاره في سبيل حل المشكلات , وفك المعضلات , فله في كل معضلة لذة ، وفي كل مشكلة نشوة , وللأمة المصرية من عزمه ما يكفل تيسير العسير , ويضمن حسن المصير إن شاء الله" .
والرسالة لا تقتصر على التهنئة كما يرى القارئ بل تدفع إلى مواصلة الجهد الدائب في سبيل الرقي التام للأمة , وقد كانت الموازنة بين سعد الوزير في العهد السالف - وسعد الزعيم في العهد الحاضر مما يفسح باب الأمل في نفوس الناس جميعا , وهو ما عرفه المويلحي فأجاد التعبير عنه إجادة السياسي الحصيف ، وهو ما التفت إليه سعد زغلول التفاتا قويا حين كتب ردا أخويا على رسالة المويلحي فقال :
"تناولت بيد الشكر كتابك , وراقني منه أدبك الغزير , وإخلاصك الوافر , أما استحضارك للماضي بمصاعبه ، وتفاؤلك بالمستقبل مع ما وقع من متاعبه ، فقد صادف مني قلبا واعيا , ونفسا راضية , وإما إشفاقك على صحتي لقيامي بالواجب ، ملبيا في ذلك داعي الوطن ، فقد قلت وقولك الحق : إنني ممن يستشعر اللذة بالألم , ويجد الراحة في التعب , في سبيل بلادي , فلها ما عشت قوتي وحياتي . أسأل الله السداد في الرأي , والصواب في العمل , وأن يسمعني عنك ما يُسر له خاطري , وتطيب به نفسي والسلام عليك ورحمة الله" .
(إلى عبد السلام المويلحي)


هذا البطل السياسي الكبير كان علما من أعلام المجلس النيابي في عصره , إذ رأس المعارضة الوطنية في وجه الأجانب وتقدم برغبات الأمة في خطب رنانة سجلتها صحف التاريخ السياسي كما بسط مقالات انتقادية وتصور حقوق المهضومين من أبناء الشعب , وترسم غطرسة الصغار من الدخلاء الذين يترأسون الإدارات الحكومية دون كفاءة , وقد كان يأخذ على ابن أخيه (محمد المويلحي) هنات يسيرة يرى فيها اندفاعا لا يحمد , ثم رأي أن يصفح عنه , فأرسل له , وكان بالأستانة , هدية رمزية ومعها خطاب يعلن رضاه ، فتأثر محمد المويلحي بموقف عمه منه وكتب إليه رسالة قال فيها :
"وصلتني هديتك , وجلُّ ما سرني منها العناية بي من مرسلها , وإني أهديك أعز شيء عندي بعدك , وأنفس حاجة لدى بعد نفسك , وهي نفسي , تتصرف فيها كيف أردت , وما أشك في أنك تعيرها قبولا جميلا , بعد أن صقلتها الحوادث والتقلبات , وهذبتها يد العلوم واللغات , فصارت جديرة بعنايتك , وأهلا لرعايتك , وهي ليست نفس محمد الذي كان بمصر يلعب به دم الشباب , فيحيد في سيره عن الصواب , ويجوز عن خط ترسمه يد حكمتك أحيانا , ليس عمدا لكن ذهولا ونسيانا ، ويعمل الخطأ على أنه يعلمه ويتسبب في نفورك , وكان ذلك يؤلمه , فالشكر لك يا والدي على تغاضيك عن سوء أفعالي تلك المدة , والحمد الله على عدم استعمالك الغضب والشدة , فقد علمت أن استعمالها وأنا في نار الشباب لا يفيد نفعا , وإنما يزيدها اشتعالا وحقدا , ورأيتَ بعد أن علمت سلامة قلبي أن معاملتي بالحلم والتغاضي , توجب لي أسفا وندما يقومان مقام التأديب , ويغنيان عن الترهيب , وحاشا لك أن تخطئ ، فقد نجح معي هذا العلاج , وعملتُ بما نصحتني به يوم سفري , فجهدت في تحصيل ما يجعلني جديرا بك , وما يغفر لي لديك ما تقدم من ذنبي ، فاقبل هذه النفس التي صنعتها بيديك , فهي هديتك عندي , لا بل هي أمانتك ردت إليك والسلام" .
(رسالة إلى الأمة)


بعد خمس سنوات من اعتزال المويلحي في صومعته , جد من الأحداث السياسية ما أثار خواطره , وقلقل أمنه , فرأى أن يبعث إلى الأمة المصرية رسالة ناصحة حين تأزمت الأمور بين انجلترا وزعماء مصر , وقامت الثورة الدامية في كل إقليم وكانت مفاجأة كبرى للذين تلمسوا صوت الكاتب الكبير عدة سنوات فلم يسعدوا به , حتى إن جريدة الأهرام بادرت بنشر الرسالة في صدر الصفحة الأولى تحت عنوان (صوت من العزلة) ، ولم يشأ الكاتب أن يتأنق في أسلوبه البياني كعادة القراء به , بل جعل الرسالة خطبة منبرية , تمس القارئ العادي ببساطتها الواضحة , لأن حرارة الصدق أقوى من خلابة البيان مهما كان الأسلوب تقريريا مباشرا يتجلى في مثل هذه العبارات :
"اليوم لا رئيس ولا مرءوس , ولا سعد ولا عدلي , ولا مشارب ولا مذاهب , بل كل مصري رئيس نفسه , وصاحب أمره , وخادم أمته , فيكون الفرد كأنه أمة , والأمة كلها فرد واحد , اليوم يبتسم فيه السيد جمال الدين في قبره ابتسامة الرضى والاغتباط إذ يرى المصريين جميعا على كلمة واحدة , فإنه رحمه الله لم يقل كلمته المشهورة : (اتفق المصريون على ألا يتفقوا) إلا من باب التوبيخ لا من باب التقرير , ومن جهة التقريع لا من جهة التشنيع , ليستثير بها الهمم , ويستفز العزائم " . والرسالة مسترسلة تمضي لغايتها في حمية وإخلاص .
(رأي العقاد)


حين انتقل المويلحي إلى رضوان ربه , وفّاه كبار الشعراء حقه من التأبين على حين سكت كبار الكتاب وكلهم تلاميذه من أمثال الرافعي والمازني وهيكل وطه حسين ، وهو تقصير تلافاه الأستاذ عباس محمود العقاد إذ شيع الراحل الكريم بمقال تحليلي قال فيه تحت عنوان (كلمة تقدير) :
"المويلحي ذو فضل في عالم الأدب الحديث لا ينكر , وصاحب مكان في كتابة العربية لا ينسى , مادام للكتابة العربية في جيله خبر يذكر , فهو بداية المستقلين في الأدب المنثور , والرائد السابق في طليعة الكتاب الذين أخذوا يكتبون , وهم يعنون ما يكتبون , ويتناولون القلم ليسطروا شعورا يحسنونه ، أو رأيا يفقهونه , فإذا ذكرنا ذلك الزمان , والزمان الذي سبقه , وأحضرنا في أذهاننا مثلا مما يُكتب فيه ويحفظ ويستحسن , فإننا حريون أن نعرض للمويلحي قيمة استقلاله , وأن نزرع الخطوة التي خطاها بالكتابة العربية في زمانه , حسب الكاتب في عصر التقليد أن يكون مستقلا في أسلوبه , وحسب الكاتب المستقل أن نرى فيه نموذجا واضحا حقيقا بالتسجيل في الأدب والتاريخ , فإذا سألتني عنه , أي نموذج هو ؟ أجبتك بإيجاز هو نموذج ابن البلد القاهري في أواخر عهد الظرف البلدي وفي أوائل عهد الحضارة الأوروبية , وهو أحد الأدباء القلائل الذين علموا الناس في جيلهم وظيفة الكاتب , وأفهموهم بالقدوة الماثلة أن للأديب منزلة غير منزلة النديم أو الطفيلي , أو مضحك المجالس والأعراس" .
وكلام العقاد يضع المويلحي الرائد موضعه الصحيح .
المصدر: مجلة الهلال 12/1995.

 





  رد مع اقتباس
 

SEO by vBSEO 3.3.0